“الولاء لتونس” جمهورية ديمقراطية اجتماعية

“الوفاء للشهداء” .. ولنهج الاستقلالية والديمقراطية

“الإخلاص للعمّال” .. وللنساء والشباب في المواقع القيادية النقابية

 

مؤتمرُ الاتحاد العام التونسي للشغل، ليس من الأحداث العادية التي تمرّ بها البلاد، ولا يُمكن أنْ يُقاس حتّى على مُؤتمراتٍ تُشْبِهُه تنتظم من حين إلى آخر لمنظمات لها الشيءُ الكثير من العراقة والتأثير في مُجريات الأمور. ذلك أنّ الاتحاد نسيجُ وحدِهِ، وتشكيلٌ كان بالأمس وظلّ إلى اليوم أكبرَ من الأحزاب كلّها  والمنظمات جميعِها والجمعيات حتى الرياضية الجماهيرية منها. فرادَةٌ وعُلويّة اِستَمَدّهُما من تماهيه نشأةً وسيرورةً ودوراً بتونس، ومن تثبيت بوصَلَته عليها من معركة التحرير إلى معركة بناء الدولة الوطنية والتحديث إلى معركة التأسيس والانتقال الديمقراطي وبناء الجمهورية الثانية.

من أجل دينامكية نقابية حقيقية

ورغم أنّ مؤتمرات الاتحاد كانت دائما تتّسم بخصوصية فارقة ولاسيّما مؤتمر الحال اِعتبارا للظرف العام الذي يَجري فيه دوليا ووطنيا والسياق النقابي الخاصّ، ورغم أنه لم تَعُدْ تفصلُنا عن هذا المؤتمر غيرُ مسافة تُحْسَبُ بالساعات لا الأيام، فإنه يبدو من الغريب ما يُلاحَظُ من هُدوءٍ وسُكونٍ في مختلف الساحات وعلى شتى الجَبَهات .. وما يبدو كأنه اِنكفاء وانتظارٌ وزُهدٌ في ما لا يَزهَد فيه النقابيون عادةً وهو الصراعُ والسجالُ والتداولُ والتنافذُ والتطارحُ والتكاشفُ والتجاذبُ على قاعدة البرامج والأرضيات والمشروعات التي تتبلور فيها تشخيصات اللحظة الراهنة وتوجّهات اللحظة الآتية وخيارات المستقبل. أين الاتحاد من هذا السياق النقابي التصارعي الفارز الذي شهدناه في مؤتمر سوسة 1989 وجربة 2001 وحتى المنستير 2006 ؟ هل أُسدِلَت الستارةُ نهائيا على هذا المَسرح الحيّ .. وارتضى الجميع دراما متلفزة للقائمات المتنافسة .. تُشبِه في محدوديتها الزمنية ومعاركها الجانبية بين القنوات ومن أجل الكاشيات الدراما التونسية الرمضانية ؟ أَأَخْلَى النقابيون حقّا  ساحة محمّد عليّ .. وتسمّروا أمام تلفازهم الجديد مُستسلِمين لغواية الفرجة والتسلّي بتشويق حلقات الصاعدين والهابطين، الثابتين والمُتحوّلين، الداخلين والخارجين، المرسَّمين والعَرَضيين، في كلا القائمتيْن اليَتيمتيْن: الرسمية الوفاقية لصاحبها الأمين العام والقائمة المُنافسة لصاحِبِها الأمين العام البديل أو هو في أسوإ الأحوال سيكون الأمين العام الزميل ؟

جواباً على ما سَلَف من الأسئلة وانتصارا للخشبَة والعرض الحيّ على الشاشة والصورة المُخادعَة، فإنّي أكتب هذا النصّ. وأكتُبُه أيضا من باب الإسهام في خلق الديناميكية الحقّة التي تليق بمؤتمر في حجم الاتحاد وأكتُبُه رفْضاً للديناميكية المغشوشة التي مَدارُها على الأسماء والقائمات والتي رهانُها على المواقع والاصطفافات ليس إلاّ.

 

حَصيلَةٌ باهـــــرَة

لا مِرَاء في أنّ القيادة النقابية التي أفرزَها مؤتمرُ طبرقة الثاني والعشرون، ورغم دقة المرحلة التي تولّت فيها مَقاليد المنظمة وقوّة العواصف التي كانت تَهُبُّ حَولَها وحدّة ما تعرّضت له من عمليات الاستهداف والاستعداء والاحتواء والشيطنَة تقلّبت بتقلّب الظرفيات والتوازنات والأجندات، ورغم ثِقَلِ المَهامّ والتحديات التي كانت مَطروحة عليها بُعَيْد انتصار الثورة مع انكشاف حجم المظلومية الاجتماعية والاقتصادية لشرائح واسعة عمّالية أو مَحرومة من العمل، فإنّ تلك القيادة سارت في هذه الأجواء العاصفة بثباتٍ مُثير حقّا للتقدير والإعجاب. كيف لا وهي التي حققت مُعادَلَة بين الاجتماعي والسياسي تَوقّفَ على تَحقُّقِها نجاحُ المسار الانتقالي ومستقبل البلاد في الوقت الذي اِعتَقَد الكثيرون أنّ الثورة قد أذنت بفكّ الارتباط بين شِقَّيْ تلك المُعادَلَة التي كانت أساسَ انبعاث الاتحاد ودورِه الوطني في الحقبَة الاستعمارية وما تلاها من أزمنة بناء الدولة الحديثة وأزمنة الاستبداد ؟ كيف لا  وقد أفاءت خيمةُ حشّاد بظلالِها الوارفة على الجميع رُفقاءَ وفُرقاءَ فعَبَرَت قيادةُ الاتحاد مع شركائها من هيئة المحامين واتحاد الصناعة والتجارة ورابطة حقوق الإنسان بسفينة تونس الانتقالية وأرست بها على شاطئ السِّلْم والأمان ؟ كيف لا وقد جعلت من الحوارِ الوطنيِّ خياراً أوحدَ وترياقا واقِياً من سُموم الفتنة والافتراق والاحتراب الأهلي ؟ كيف لا وقد وَقَفَت بثبات على أرض نقابية متحرّكة تحررت فيها “المبادرةُ” العمّالية وحظِيَت القطاعات بهوامش واسعة من حرية القرار والإمساك بملفاتها التفاوضية ؟ كيف لا والقيادةُ المُغادِرَةُ لم تُعْوِزْها شجاعةُ التعامل مع وثيقة قرطاج ولم تمارس لعبة الاختباء القديمة ؟ كيف لا وهي لم تتأخرعن الإصداع بمواقف عُدَّ أكثرُها بوصَلَةً تُشير إلى الحَدّ الفاصل بين ما يجب وما لا يجب في كلّ المعارك من معركة الدستور إلى الإرهاب إلى استقلال القضاء وحرية الإعلام إلى ما تبقّى من معركة الثورة ووعود التنمية ؟

ونواقِصُ ظاهــــرَة …

إنّ هذه الحصيلةَ، وككل حصيلة من صِنْفِها في النقابات والأحزاب والجمعيات وكلّ شُعَب الحياة، تبقى خاضعة لقاعدة النسبية وجدل الإيجاب والسلب. ولا يحتاج المُتابع للشأن النقابي إلى حصافة من نوعٍ خاصّ ليَقِفَ على حدود الآداء وتعثّرات المسار. فعُهدةُ المكتب التنفيذي المتخلّي شهدت تقصيرا في التعامل مع عديد الأحداثٍ سواءً الجسيمة منها  كالاعتداء الجبان على البطحاء الرمز في ذكرى رمز هي ذكرى اغتيال حشّاد يوم 4 ديسمبر 2012 ارتضت فيه القيادة تسوية مُذِلّةً، أو العادية منها حيث شَهِدنا انفلاتات نقابية كثيرة بعضُها اتخذ أشكالا بهلوانية وشَهِدنا أيضا سيكتارية مَقيتَة ماضية في التفاقُم بين أبناء المنظمة الواحدة. وكلّ ذلك ضربَ إنْ قليلا أو كثيرا صورة الاتحاد ومصداقيتَه في أوساطٍ كثيرة.

وإلى ذلك، فإنّ هذه العُهدَةَ اِتسمَت ببقاء الوضع على ما هو عليه في ملفّات تُطلَق حولَها الوعودُ الكبيرة ولا نرى في مُنجزِها إلاّ الأشياء القليلة كما كان الحال مع هيكلَة الاتحاد التي تُرحَّلُ من موعد إلى موعدٍ يَليه بتفويض أو بدونه، وكما كان الحالُ مع منوال التنمية والإصلاح التربوي وإصلاح المنظومة الصحية والجبائية ومنظومة التغطية الاجتماعية. والتقصير في هذا، بعضُه يَطال المشاريعَ والتصوّراتِ وبعضُه الآخر يطال التكتيكاتِ والنضالاتِ ممّا سمَح للطرف المُقابل بالتفكير في التراجعات والتفصّي من الاتفاقيات حتّى بات البعضُ يتحدّث عن الجدوى أصلا من الخيار التفاوضي والسياسة التعاقدية.

وهذه المُراوَحَة في ذات المكان، لا تقتصر على ذلك بل تتجاوزه إلى آداء الأقسام الذي يظلّ مُفتقرا إلى الحَدّ الأدنى من الإدماج والتكامل ناهيك عن الاستمرارية والتراكم. فقد جمعتني لقاءاتٌ وحواراتٌ ببعض الإخوة المسؤولين عن الأقسام إبّان تسلّمهم لمَهامّهم، بَدَوْا لي فيها فريقا فاتحا كأنّه لم يَكن في عُهدة سابقيهم تكوين ولا تثقيف ولا دراسات ولا تشريعات ولا شباب ولا جمعيات ولا نساء عاملات. وهذه الذهنية النرجسية كانت ومازالت حاجزاً على بلوغ ما كان واجبا على الاتحاد بلوغُه منذ عقود وهو العمل المؤسساتي متصل الحلقات والحقبات.

ورغم كلّ ما يُلاحظُه المرءُ من انفتاح المركزية النقابية على الجهات الداخلية ولا سيما القصية منها لا بالمعنى الجغرافي بل بالمعنى النقابي مثل تطاوين وقبلي وتوزر وسليانة وجندوبة والكاف وزغوان وباجة ومَسعاها الحثيث أكثر من سابقاتها لإدماج هذه الأطراف في الدورة النقابية، فإنّ ما لا تُنكره حتى المركزية نفسُها أنّ جزءاُ غيرَ هيّن من العلاقة بين المركز والجهات والقطاعات، يظلّ موسوما بالطابع العمودي المستمَدّ من الهرمية النقابية السائدة ومن النُّظُم المُعتَمَدة في الإدارة والمالية وسير الأنشطة وفقا لما يضبطه القانون الأساسي والنظام الداخلي. ولا شكّ أنّ ما يصحّ على هذه النقطة الأخيرة، يصحّ على نواقصَ أخرى كثيرة سلفت الإشارةُ إليها. فما أصلبَ نواة الأدبيات والمقولات والعادات والموروثات النقابية ! وما أضعف قابليتها للتاريخية والتطوّر والتجدّد !

رهانــاتٌ وتَحِدّيــاتٌ …

الخمسمائة وخمسون مُؤتَمِراً الذين سيكونون أسياد أنفسِهم وأسيادَ قرار المؤتمر الثالث والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل أيام 22 و23 و24 و25 جانفي الجاري، سيتحمّلون أمانة لا تَقِلُّ ثِقَلاً وجسامةً عن تلك التي سيتحمّلها الأمين العام الجديد ومساعدوه الاثنا عشر والأعضاء العشرة للجنتيْن الوطنيتيْن للنظام والمراقبة المالية. ذلك أنّ الرهانات المطروحة على المنظمة والتحديات المرفوعة هي من الأهمية والدقة بمكان.

أمّ الرهانات والتحديات في رأيي، ألاّ يُفرِّطَ المؤتمرُ في هويّته كفضاء للتفكير والمساءلة والتقييم والاستشراف لصالح ما كان يتضخّم دائما في مؤتمرات الاتحاد وغيره من المنظمات وهو العملية الانتخابية وحُمَّى القائمات والمناورات والاصطفافات والولاءات. فلا ينتهي المؤتمر إلاّ وقد ضاعت الفرصةٌ الثمينة لتعديل مسارٍ أو فتح أفقٍ أو ضخّ دماء.

فليَكُنْ مؤتمرا إذن ..

ليُواجِهْ النقابيون أنفسَهُم في مُكاشَفة واضحة وعميقة لا يخجلون فيها من عيوبِهم وتَمثّلاتهم الخاطئة لذواتهم في هذا الظرف الدولي المتحوِّل المتفجّر وهذا السياق الوطني المحفوف بكل المخاطر والمجاهيل. وأوّلُ تلك التمثلات الخاطئة، هي تقديس الممارسة النقابية واعتبارُها فوق النقد والمساءلة ورميُ كلّ المعترضين عليها المختلفين مع أصحابها من داخل الاتحاد وخاصة من خارجه بأقذع النعوت حتى ضُيِّقَ على اتجاهات النقد والمُعارضة تضييقا اِضطرّها في السنوات الأخيرة إلى خفضِ الصوت وحتى الاختباء.

لِيَكُنْ إذن مُؤتمَرا عامّا :

– للنقد والاختلاف .. للتغاير بدل التوافق، وللتبادل بدل التنافق.

–  للمكافحة والمصارحة بدل المناصرَة والمحاصصة.

– للمساواة الفعلية بين النساء والرجال وللحدّ من الذكورية المستفحلَة في الترشيحات والقائمات وخاصة في ما ستفرزُه الانتخابات من قيادات. إنه لمن الشَّيْن والشنآن أنْ تتوالى المكاتب التنفيذية وتظلّ مثل حمّام النصف الأوّل من اليوم رجال ورجال ورجال كما يقول عبد القادر المقري.

– للتشبيب لئلاّ تتهرّم الهياكلُ وتَشيخَ المكاتبُ المُسيِّرَةُ وتفقدَ كلَّ نَضارة وتوقّدٍ وكلَّ قُدرة على الإصغاء للزمن.

– لِيَكُنْ مُؤتمَراً للدمقرطة التي لا تساهلَ فيها مع معاييرها المؤسِّسَة وأحدُها بل أهمّها التداول. الأصلُ في ذلك الفصل  التاريخي رقم 10 أنْ يَفيض من المركز إلى القطاعات والجهات فَيُعَمَّمَ عليها ويُتيحَ أمام الأجيال الشابة فُرَصاً إضافية للصعود إلى المواقع القيادية وللعطاء وهي بَعدُ لم تُصَبْ بفيروس الموقع وحساباته ومَمْنُوحاته ولم تتشرّب حِيَلَ التمكّن منه والتمكين له. الأصل هو تعميم الفصل وليس الالتفاف عليه.

– لِيَكُنْ مُؤتمَراً للحدّ من شطط المركزة وانخرام التوازن بين المركز والجهات القوية نقابيا بفعل كونها محظوظة صناعيا وتنمويا من ناحية ومن ناحية ثانية الجهات القصيّة والضعيفة نقابيا بفعل كونها محرومة من التنمية ومن مؤسسات الإنتاج المستقطِبَة لليد العاملة. والقوّة في هذا السياق النقابي كما الضعف تماما، المؤشراتُ المعتَمَدَة في كليهما مؤشراتٌ كمية بالأساس وقليلا ما كانت نوعية. ولعلّه من المُفارقَة أنْ يُعيد الاتحاد عبْر مُؤتمره أو مجلسِه الوطني إنتاج الخلَل الحاصل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين جهات محظوظة وأخرى منكوبة. فتطاوين تُشارك في مؤتمر يَعُدّ 550 مؤتَمِراً بـ 4 نوّاب فقط ! وكم يبدو الرقم بليغا مُكتفيا بنفسِه في غِنًى عن أيّ توصيف !

– لِيَكُنْ مُؤتمَراً لمُصالحة الفعل النقابي مع هويته التعددية وإطلاق ما أُخْرِسَ في كيانِه من الأصوات وما أًخْمِدَ من القوى والطاقات. ليست النقابة فضاءً للمطلبية وحْدَها وللتمرّن على الإضرابات والتسابق لِنيْل شهادات حسن سيرة فيها. النقابة فضاء أوسَعُ من ذلك وأجملُ متى جعلنا منها ورشة للثقافة والفن والاتصال ومساحة للرياضة والترفيه والتهذيب وفضاءً للتدرّب على الانتماء والتضامن والمُواطنَة.

– لِيَكُنْ مُؤتمَراً تَبْني فيه القيادةُ الصاعدةُ عُهدتَها النقابية على أسسٍ جديدة مُغذيةٍ للثوابت التي جعلت الاتحاد على مرّ السنين مدرسة للنضال والديمقراطية وقلعة حامية للوطن وللجمهورية. وهذه الأسُسُ، في رأيي، تُختَزَلُ في الكلمات المفاتيح التالية: تنظيم عصري، قرار مستقلّ، إرادة متحررة من كل الحسابات والولاءات، ممارسة نظيفة، اتصالٌ ناجعٌ، رؤية متكاملة دامجة لكلّ الملفات والتحرّكات، تكوين وتثقيف، شراكة، حَوْكَمة، تضامن.

لِيَكنْ المؤتمر الثالث والعشرون حقا وتماما هو المؤتمر !

عاش الاتحاد أكبر قوة في البلاد !

المجد للشهداء والعزة لتونس !

عبد اللطيف حدّاد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *